كيف تتعامل مع الوحدة: حلول من الفلسفة القديمة


"ليست الوحدة نقص الصحبة، بل عدم إمتلاك هدف."غييرمو مالدونادو.
يمكن أن نشعر بالوحدة وسط مجموعة من النّاس، و يمكن ألّا  نشعر بها كلّيا و نحن منعزلون تماما. في الواقع، إقترحت مجموعة من الأبحاث أنّ البشر حيوانات إجتماعيّة و أنّ العلاقات ضروريّة لعيشها. تولّى المحلّل النفسيّ الأسترالي الأمريكي روني سبيتس تجربة في الأربعينيّات، خلالها فرّق مجموعة من الرّضع عن أمّهاتهم، و تمّت تربيتهم آنذاك في دار أيتام، و إنقطعوا عن العالم نوعا ما. بعد سنوات قليلة، أظهر هؤلاء الأطفال مشاكل واضحة في النموّ عقليّا و جسديّا. هذا يعني أنّه يمكن أن يكون الحرمان الإجتماعي مضرّا جدّا في مرحلة النموّ، خلالها يحتاج الفرد إلى القرب و التواصل مع البشر لينمو بشكل صحّي.
يبدو بعض الأشخاص غير قادرين على العمل دون القليل من التواصل الإجتماعي يوميّا، في حين أنّ آخرين يقضّون أسابيع دون أن يروا إنسانا و مع ذلك يكونون بخير تماما. في الواقع، أثبتت العديد من الدّراسات أنّ الأشخاص الذّين يمتلكون الكثير من العلاقات الإجتماعيّة يكونون عامّة أسعد. و بالنّظر إلى السّلوك البشري إجمالا يسعى الإنسان بطبعه للتواصل و الإتّصال. لذلك، يبدو أنّ الرغبة في التواصل الإجتماعي متأصّلة بطريقة أو بأخرى في الطبيعة البشريّة في كلّ مراحل الحياة. لكن غالبا يسعى الإنسان للتواصل بسبب شعوره بالوحدة أكثر من حاجته الطبيعيّة للتواصل. نتغاضي غالبا على الجانب العقلانيّ للوحدة و بذلك لا ندرك بأنّ جزءا كبيرا من سبب شعورنا بها هو طريقة تفكيرنا.
يتطرّق هذا المقال إلى العديد من الآراء بخصوص طريقة تعاملنا مع الوحدة و يقترح حلولا ممكنة قائمة على أفكار من الفلسفة القديمة.
كلّنا نحتاج إلى التواصل الإجتماعي إلى حدّ ما و قد وفّرت لنا التكنولوجيا جزءا كبيرا منه. في عصرنا هذا ليس كل من هو منعزل محروم من التواصل الإجتماعي. للأسف، هذه البوابة المنفتحة على العالم لا تضمن لنا تقليص إحساسنا بالوحدة، قد يكون هذا بسبب نوعيّة التواصل الإجتماعي، أو بسبب نقص التواصل الجسدي كالمصافحة و العناق خلال محادثة شخص ما. لكن يكون الأمر مختلفا تماما عندما لا يتقلّص شعورك بالوحدة رغم إمتلاكك للكثير من الأصدقاء الذين يتقابلون أسبوعيّا، أو أن تكون جزءا من عائلة متكوّنة من والدان و طفلين أو ثلاثة أطفال و حيوان أليف. كما يقول الممثّل روبن ويليامز :" كنت أظنّ أنّ أسوء الأشياء في الحياة هي أن ينتهي بك الأمر وحيدا. ليس الأمر كذلك. أسوء شيء في الحياة هو أن ينتهي بك الأمر محاطا بأشخاص يجعلونك تشعر بالوحدة." 
عندما تتأملّ السّلوك البشري، ترى بوضوح أنّ الظروف الخارجيّة تساهم بشكل كبير في الشعور بالوحدة لكنّ ذلك قابل للتغيير. رأى البوذا أنّ الوحدة هي نوع من عدم الإحساس بالرّضا إزاء اللّحظة الحاضرة و بأنّ شيئا ما ينقصها. لكن، عندما نفكّر بنقصان شيء ما، هل يكون هناك شيء ناقص حقّا؟ 
في الواقع، يمكننا أن نقول بأنّه لا وجود لشيء ناقص. لكن بإعتماد الجانب العقلانيّ للوحدة نكتشف بأنّنا أثقلنا كاهلنا بأفكار حول ما يجب أن تكون حياتنا متناسبة مع المعايير الإجتماعيّة، مؤمنين بأنّنا نحتاج إلى عدد معيّن من الأصدقاء، و معدّل معيّن من التواصل الإجتماعي لنكون أشخاص كاملين و "عاديّين". من خلال الإعتماد على الأفلام و المسلسلات التلفزيونيّة، خلقنا صورة مثاليّة عمّا يجب أن تكون عليه حياتنا الإجتماعيّة بما أنّنا نرى صداقات و علاقات و زيجات مثاليّة تتكوّن من أشخاص مشرقين و سعداء، و بعد أن نتعرّض مرارا عديدة لهذه الأوجه المحرّفة و المزيّفة للحياة، ننظر إلى حياتنا الخاصّة و نستنتج بأنّ الكثير ينقصها.
في الواقع، يمكن ألّا تكون لنا صداقات مثاليّة، أو أن نكون في زواج غير سعيد على خلاف الآخرين، و يشعرنا ذلك بالوحدة، لأنّنا لا نتطابق مع المعايير الإجتماعيّة التي نراها و ننسى أن نتحقّق ممّا إذا كانت إحتياجاتنا الإجتماعيّة الحقيقيّة تتطابق مع تلك المعايير أو لا. 
من وجهة النظر البوذيّة، يأتي ألم الوحدة من التعلّق. يمكن أن نتعلّق بتجارب من الماضي، أو بآمالنا المستقبليّة، أو بمعتقداتنا حول ما يجب أن يكونه الحاضر. في الواقع، الإحساس بعدم الإكتمال هو الذي يحفّز إحساسنا بعدم الرّضا باللّحظة الحاضرة، و إن غيّرنا وجهة نظرنا يمكن أن نكون راضين و سعداء في نفس تلك الظروف. 
السعادة هي حالة عقليّة لا تحدّد بعدد علاقاتنا في المجتمع، لذلك يجب أن نرى الحياة بشكل أعمق. في الحقيقة، أن تكون وحيدا و لا تمتلك أصدقاء لا يعني أنّك غير كامل أو لا يمكنك أن تستمتع بالحياة. تُتحدّد سعادتنا بالموقف الذي نتّخذه تجاه حاضرنا. هذا يعني أنّه من خلال تقبّل الواقع، يمكننا أن نقلّص من الشعور بالوحدة و نبدأ بالإستمتاع بالإنعزال. يمكننا أن نغيّر موقفنا ذاك عندما نتيقّن بأنّ أفكارنا و مشاعرنا قابلة للتغيير، و أنّ اللحظة الحاضرة لا تتغيّر. 
يفرّق الرّواقيّون بين "الوحدة" و "البؤس". يمكن المقارنة بينهما رغم أنّ الفرق ليس بكبير. البؤس هو حالة "الضّياع" أو "الهجران" وهو  نفس إحساسنا عند شعورنا بالوحدة. يرى إبيكتيتاس أنّ البقاء وحيدا لا يجعلك بالضّرورة بائسا، و بأنّ قضاء الوقت لوحدك هو جزء من الحياة و أنّه عليك ألّا تصدّ هذه التجربة، فيقول:" على المرء أن يجهّز نفسه لهذا أيضا، بمعنى، أن يكون قادرا على أن يكون مكتفيا ذاتيّا، و يكون متسامحا مع نفسه، و يتأمّل نوعيّة أحكامه، و يشغل نفسه بأفكار تناسبه ليتمكّن من أن يتواصل مع ذاته، و ألّا يكون في حاجة للآخرين."
نحن لا نتحكّم بظروفنا، ممّا يعني أنّه لا يمكننا أن نعوّل على التّرفيه الذي يوفّره لنا الآخرون. العوامل الخارجيّة بما فيها العلاقات الإجتماعيّة غير ثابتة و متقلّبة. يمكن أن نحاط يوما بأصدقاء يوفّرون لنا البهجة بمرافقتهم، و نكون في يوم آخر بمفردنا.  و بالتالي، عندما لا نعرف كيف نكون بصحبة ذواتنا، نواجه مشاعر الوحدة بالتأكيد. لذلك، من الأفضل أن نتعلّم كيف نكون وحيدين، لنُكوّن ترابطا مع أنفسنا و نقدّرها، و نستمتع بتواجدنا مع أنفسنا. كما قال جون بول سارتر:" إن كنت تشعر بالوحدة عندما تكون لوحدك فإنّ صحبتك سيّئة." عندما نكون سعداء لوحدنا لا نحتاج إلى أناس آخرين ليرافقوننا و نتحرّر أكثر من الظروف الخارجيّة، و يصبح بذلك الإندماج في المجتمع شيئا ثانويّا لا ضروريّا.
الحلول:
1.غيّر موقفك إزاء الوحدة  
رأى بوذا الوحدة على أنّها نوع من عدم الإقتناع و الرّضا باللحظة الحاضرة، كأن نعارض حدوث شيء ما أو عدم حدوثه. فنحن نتمسّك بمعتقداتنا حول ما يجب أن تكون عليه الحياة، و بما أنّ معتقداتنا  لا تتوافق مع الواقع، نتألّم. الطريقة البوذيّة للتغلّب على هذا تقوم على تغيير طريقة تفكيرنا حيال الموقف الذي نمرّ به و نتقبّله كما هو و مهما كانت نوعيّته، لأنّ سعادتنا لا تعتمد على الظروف الخارجيّة بل على موقفنا نحوها.
2.عليك أن تكون مكتفيا بذاتك لكي لا تحتاج الناس لتكون سعيدا و راضيا
رأى الفيلسوف الرّواقيّ إبيكتيتاس أنّ النّاس يعانون من مشاكل الوحدة و لا يستطيع الكثير منهم حتّى أن يتخيّل أسلوب حياة يقوم على العيش وحيدا. لكن بالنّسبة لأغلبنا، لا مفرّ في مرحلة ما من الحياة أن نقضّي فترة من الزّمن بمفردنا. يقول إبيكتيتاس بأنّه علينا أن نتعلّم أن نتبنّى علاقة إيجابيّة مع أنفسنا لكي نستطيع أن نخوض فترات الوحدة تلك بإسترخاء و سكينة. إضافة إلى ذلك، تجعلنا القدرة على الإنعزال و القيام بمهامنا الخاصّة  أكثر تحرّرا وإستقلالا عن النّاس، و نصبح بذلك أقل حاجة لإهتمامهم و موافقتهم و تقبّلهم. عندما نجعل حياتنا تعتمد على صحبة الناس نؤذي أنفسنا. 
3.تحكّم برغباتك و إطمئن لما يحمله المستقبل لك
يقول إبيكتستاس أنّه عندما نكون في المنزل لوحدنا منزعجين و نتألّم لأنّنا نشعر بأنّ شيئا ما ينقصنا، يمكننا أن نغيّر ذلك و نجد السعادة في إنعزالنا، و نبقى في نفس الوقت منفتحين على التّواصل الإجتماعي إن سنحت الفرصة بذلك، و بهذه الطريقة تتأقلم رغباتنا مع السّير الطبيعي  للأشياء. يقول إبيكتيتاس:"تذكّر أنّه يجب عليك أن تتصرّف في الحياة كأنّك في حفلة عشاء، إذا قُدّم لك شيء ما فمُدّ يدك و خذ حصّتك بإعتدال. وإذا تخطّاك فلا توقفه. أما إذا لم يأت الأكل بعد فلا ترغب فيه بشدة، بل انتظر بهدوء حتّى يصلك."

إرسال تعليق

Post a Comment (0)