كيف تكتسب الشجاعة و الثبات حسب الفلسفة الرواقيّة؟

كيف تكتسب الشجاعة و الثبات حسب الفلسفة الرواقيّة؟

"ينتصر الصّبر و الثّبات على كلّ الأشياء."رالف وولدو إميرسون
الإختباء هو عبارة عن حماية نفسك عن طريق عزلها عن الخطر الموجود في العالم. من البديهي أن يسبب الإختباء المستمّر و العزل الذاتي المتواصل إحساسا بالعجز، فهو يجعل الفرد يؤمن بأن ما يختبئ منه أعظم و أكبر بكثير من طاقة إحتماله، لأنه يفتقر إلى القوّة و المهارات اللازمة للتعامل معه. للأسف، يتسبب هذا في حرمانه من فرص عديدة في الحياة لأنه لا يريد أن يواجه العالم. 
في الحقيقة، هناك طريقة أفضل للتعامل مع الخوف. عوضا عن العزل الذاتي و الإختباء، يمكن أن نختار أن نقوّي قدراتنا و نصبح أكثر مرونة تجاه الأشخاص و المواقف السلبية أو الصعبة لكي لا تكون عائقا أمام حصولنا على حياة جيّدة.
سيساعدك هذا المقال على بناء الثقة و الشجاعة اللازمة لتعيش حياة سعيدة.

ماهي الرّواقيّة؟
" الرواقية هي مدرسة فلسفية هلنستية تأسست في أثينا من قبل زينون الرواقي في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. ويعتقد الرواقيون بشكل أساسي أن العواطف ناجمة عن أخطاء في الحكم، وأن إنساناً حكيما، أو شخصا يملك "الكمال الأخلاقي والفكري،" لن يعاني مثل هذه المشاعر." - مبادرة الباحثون السوريون.

ماذا يعني "الثّبات" تحديدا؟
الثّبات هي القوّة العقليّة التي تمكّن الشخص من مواجهة الخطر و تحمّل الألم أو المحن بشجاعة. بالنّسبة للرواقيين، "الثّبات" هو فنّ تحصين و تقوية العقل بالمبادئ الرّواقيّة لكي يصبح الفرد أقلّ ميولا للإختباء و عزل نفسه و يعيش الحياة بطريقة أفضل و بنظرة مختلفة.
كان الرّواقيّون الأفضل في التعامل مع العالم باستخدام المنطق و العقل. و باستخدامهما أدركوا أن أشياء عديدة في الحياة لا تستحقّ الاهتمام. فآراء الناس الآخرين غير مهمّة كما تعتقد، و السمعة الجيّدة  شيء كماليّ. حسب الرّواقيين، لا يمكننا أن نغيّر العالم لكننا نستطيع أن نغّير طريقة تفكيرنا، و بالتالي يتغيّر موقفنا من العالم.
بإتّخاذ طريقة التّفكير الصحيحة نتمكّن من تخطّي أي محنة و لا يمكن تحقيق ذلك إلا عن طريق الممارسة.

1.سينيكا: تقبّل الواقع كما هو
سينيكا
سينيكا

يمكن أن يحمل الشخص معتقدات تقف عائقا أمام عيشه حياة سليمة. غالبا تسبب لنا معتقداتنا و مواقفنا تجاه الأشياء الجيّدة و السيّئة في العالم الألم لأننا نعلّق سعادتنا بتوقعات معيّنة نحدّدها لأنفسنا، و حين لا تتقابل توقعاتنا مع الحقيقة الحتميّة نتألّم.
تمنّى سيريرنوس صديق الفيلسوف الرّواقي سينيكا ألّا يعامل الناس بعضهم البعض بجفاء و إحتقار  فقال له سينيكا بأن هذه ليست الطريقة الصحيحة لرؤية العالم و كتب له رسالة قائلا فيها :" أنت تتمنّى أن يكون الجنس البشري بأكمله غير مؤذ و هذا مستبعد. أضف إلى ذلك، من يستفيد من أفعال سوء لم تنفّذ هو من يقوم بتلك الأفعال، وليس من سيتأذّى لو نفّذت أفعال السوء تلك." 
لذلك، عندما نغيّر نظرتنا إلى العالم نحرّر أنفسنا من عبء المقاومة و ألمها. الحياة مليئة بالألم و بأناس وقحين و أنانيين و عنيفين. كلما توقّفنا عن مقاومة هذه الحقيقة نتمكّن من مواجهة العالم بطريقة أكثر سلامة و عقلانيّة. في كتابه" سلام العقل" يقول سينيكا أنّه إذا كنّا نعرف بأنّ الموت هو مصيرنا لحظة ولادتنا فسنعيش وفقا لذلك. التيقّن بأن الموت محتمل في أيّ وقت و لحظة من حياة الفرد يجعله أكثر ثباتا و قوّة. لا يفاجئ وقوع السوء إلا من لم يوجّه إنتباهه إلّا للسعادة و المتع.

2.إبيكتيتاس: تحكّم بأفعالك و لا تهتمّ بما لا تستطيع التحكّم به
إبيكتيتاس
إبيكتيتاس

 يخبرنا إبيكتيتاس عن أساس الثّبات العقلي في كبح رغباتنا و مخاوفنا. كل من يعيش في هذا العالم يرغب في الحصول على شيء ما و هذا ليس بالضرورة شيئا سيئا لكنّه مرتبط بقواعد معيّنة. يقول إبيكتيتاس أنّ من يتقدّم في الحياة يتعلّم من الفلاسفة أنّ الرغبة تعني الرغبة في الأشياء الجيّدة، و أنّ الخوف يعني الخوف من الأشياء السيّئة، و يتعلّم أيضا أنه لا يستطيع أن يحصل على السعادة و السلام إلا إن لم يفشل في الحصول على رغباته و أن يتفادى تلك التي عليه أن يتفاداها، و يكون حذرا من الأشياء التي تعتمد على إرادته و إختياره. ينطبق هذا على كلّ الأشياء التي نفعلها في الحياة.
 يقول إبيكتيتاس أيضا أنّ الأشياء التي تفوق تحكّمنا هي أشياء ضعيفة و صاغرة. إذا سمحنا للأشياء الخارجة عن سيطرتنا أن تؤثّر علينا فسنجد أنفسنا في وضعيّة مرهقة. لذلك علينا أن نكون غير مبالين بالأشياء الخارجة عن تحكّمنا لكي لا نترك لها المجال لتتحكّم بسعادتنا.
و بالتالي فإنّ الثّبات العقلي يعني تقبّلا كاملا و صحّيا للأشياء الخارجة عن تحكّمنا و هي عادة أشياء إما نرغب في الحصول عليها أو نخاف منها. يقول إبيكتيتاس أنّه على الفرد أن يركّز كلّيا على أفعاله، وأن  يراقب و يعمل و يستغل أفضل الرغبات، و يتخلّى عن معارفه، و يقبل أن يكون مكروها من قبل خادمه، و أن يضحك عليه، و يظهر على أنّه أسوء من الآخرين في كلّ شيء. فإذا تخلّى عن كلّ هذه الكماليّات يكون قادرا على اكتساب الرّصانة و الوقار و الحريّة و السّلام.

3.كريسيبوس: الحياة السعيدة هي الحياة القائمة على الشجاعة و الإستقامة
كريسيبوس
كريسيبوس

يعتبر كريسيبوس أفضل الفلاسفة الرّواقيين. بالنسبة لكريسيبوس، الحياة السعيدة هي الهدف الأهمّ و الذي يجب أن تكون كل أفعالنا موجّهة لتحقيقه. لتحقيق هذا الهدف، علينا أن نتبيّن الأشياء الجيّدة من السيئة في هذا العالم، و أن نعيش حسب نوعيّة تجربتنا للأشياء التي تعترضنا في الحياة.
و في هذا السّياق، قام الرّواقيّون بإنشاء نظام يفرّق بين الفضيلة و الرذيلة، و ما بينهما، و إستنتجوا بأنّ العيش بنزاهة و إستقامة يعني حياة سعيدة، و أنّ العيش بهمجيّة يعني حياة تعيسة. 
إحدى أسس الفضائل الرّواقيّة هي "الشجاعة" على عكس "الجبن" الذي يعتبره الرواقيون رذيلة. يمكن إعتبار الشجاعة حجر أساس في بناء الثبات الرّواقيّ. في أغلب الأحيان، يتطلّب منا طريق الفضيلة أن نواجه مخاوفنا و ألمنا. تمكننا الشجاعة من إتّخاذ القرارات الصائبة و تحقيق أهدافنا بغض النظر عن العقبات التي تعترض طريقنا.
ممارسة الرذائل اليوميّة كإستهلاك الكحول أو المواد المخدرة، أو تعويض التحديات بأشياء تضيع الوقت كألعاب الفيديو هو نوع من  الجبن يمارسه الفرد للإختباء من المواقف الصعبة. المشكلة تكمن في أن هذه الرذائل تعطي الإنسان ملذّة قصيرة المدى تتبعها تعاسة عدم الوصول إلى الأهداف طويلة المدى، و التخلّي عن فرص مهمّة بسبب الخوف و عدم إنتهازها، و الشعور بالعجز و الجبن لعدم قدرته على الفعل الإيجابي، ممّا يدفعه للشعور بالخزي و الذّنب. في الواقع، تجعل الجرأة و القيام بالأعمال الإيجابية المرء يشعر بعدم الراحة في البداية، لكنها تجلب له السعادة و الرضا على المدى الطويل. 
يجعلنا تكريس أنفسنا لهدف معيّن ننتصر على الألم و يجلب لنا السعادة، ويحمينا من الإرتباك و الإنهيار أمام الشدائد و المحن. و لتستطيع القيام بذلك، عليك ألا تهتم بالمواقف الخارجيّة لكي لا تتأثّر إختياراتك. لذلك ركّز أولا على نوعيّة أفعالك و تأكد من أنّها أفعال خيّرة. كل ما يجري حولك هي أشياء ثانويّة مقدّرة أن تحدث و خارجة عن سيطرتك. لا يجب أن يؤثّر المرض أو أي شيء آخر قد يواجهه الإنسان على قدرته على القرار و الإختيار. عليك ألا تتمنى بأن تتغيّر الظروف، عوضا عن ذلك عليك أن تتقبّلها كما هي و تتعامل معها بأفضل طريقة ممكنة.

4.ماركوس أوريليوس: أنت تسيطر على أفعالك و لا يمكن لأي عامل خارجيّ أن يغيّر ذلك
ماركوس أوريليوس
ماركوس أوريليوس

كان ماركوس أوريليوس حاكم روما أعظم الممالك في العالم. كان يعرف جيّدا أقسى أوجه الحياة. لم تكن روما تخوض حربا مستمرّة مع أعدائها فقط، بل إنتشر فيها الطّاعون أيضا. علاوة على ذلك، عانى ماركوس من الكثير مثل الأمراض و من خيانة زوجته فاوستينا له أيضا. و ليتعامل مع كل الأشخاص الأشداء و الخطيرين الذي كان يواجههم كل يوم، إبتكر تمرينا رواقيّا يسمّى " التصّور العكسي" و الذي يحصّن العقل عن طريق تعديل توقّعاتنا. كان ماركوس يشجّع نفسه على العيش باستقامة و لم يستطع أن يوقفه أحد أو يمنعه من القيام بذلك. ليس كل من يعترضنا يتمنّى لنا الخير، و يحاول البعض أن يعيقنا أو يمنعنا من الوصول إلى مبتغانا. لكن بغض النظر عما يفعلونه، لا نستطيع أن نلومهم على أخطائنا نحن، لأنهم غير قادرين على التأثير على قدرتنا في الإختيار. نحن مسؤولون تماما على إختياراتنا.
يقول ماركوس أوريليوس بأنّه إذا إستصغرك أو أهانك شخص فتلك مشكلته، عليك فقط ألّا تفعل أو تقول شيئا وضيعا أو مهينا. و إذا كان هناك شخص يكرهك فتلك مشكلته، أمّا أنت فعليك أن تكون صبورا و بشوشا مع الجميع بما فيهم ذلك الشخص، و تكون مستعدا لتريه خطأه ليس ببغض و عداوة بل بطريقة صادقة و سليمة.

إرسال تعليق

Post a Comment (0)