إبيقور و فلسفة المتعة!

إبيقور و فلسفة المتعة!

"المتعة هي أوّل الأخيار، هي بداية كل اختيار و كلّ إعراض، هي غياب الألم في الجسم و كلّ علل الرّوح."إبيقور
في القرن الثالث قبل الميلاد في الجزيرة الإغريقيّة ساموس، نشأ إبيقور الّذي أصبح فيما بعد أحد مؤسّسي أهمّ المدارس الفلسفيّة الأربع لأواخر العصور القديمة. قضى إبيقور حياته يدرس الأشياء التي تجعل النّاس سعداء وكيفيّة الوصول إليها. وفقا لإبيقور، السعادة هي أهمّ هدف في الحياة، ويمكننا أن نصل إليها عن طريق السعي وراء المتعة، و تفادي الألم، وعن طريق التحكّم برغباتنا والاستمتاع بالأشياء البسيطة أيضا.
خلافا لبعض النصوص القصيرة، فُقدت أغلب أعمال إبيقور. لحسن الحظ، يمكننا أن نجد الكثير من اقتباساته و أفكاره في أعمال مؤلّفين آخرين كستوبيوس، و فيلوديموس، و سيسيرو. السّبب وراء تركيز إبيقور على السّعادة بدل النّزاهة هو أنّه رأى أنّ البشر مخلوقات تسعى وراء المتع طبيعيّا. عندما نشاهد الأطفال الصّغار نراهم يسعون دائما وراء الحصول على المتعة. عندما يكبرون، يصبح هذا السّعي وراء المتعة غالبا أكثر دقّة و تهذيبا. فنتعلّم مثلا أنّه من الضروريّ أحيانا أن نتحمّل و نجتاز الألم لنحصل على البهجة والمتعة، فمجرّد تقبّل الآخر أو الانخراط في أنشطة غيريّة نُفيد بها الآخرين لإنشاء مجتمع أفضل للجميع هي طريقة للحصول على المتعة في النهاية. يُساء فهم السّعي وراء المتعة من منطلق مفهوم إبيقور غالبا، لأنّه في حين أنّ البعض يعتقدون بأنّه كان يشير إلى الانغماس في الأحاسيس كتناول الأطعمة الفاخرة، و المساهمة في طقوس العربدة و الثّمالة و النّشوة طيلة اليوم، إلاّ أنّه لم يكن يعني هذه الأشياء. فهو أدرك بأنّه يمكن أن يكون الإفراط في المرح ممتعا لوقت قصير فقط، لكنه يسبّب على المدى الطويل الألم وحسب لدرجة أنّه يطغى على المتعة التي تلقّاها الفرد من ذلك النّشاط.
إذا ما الّذي نصح به إبيقور؟
فرّق إبيقوربين أنواع المتع و الرّغبات المختلفة. لذلك، أنشأ النّظام الذي يخبرنا بالمتع التي علينا أن نتبعها و الأخرى التي علينا أن نتفاداها. جزء أساسيّ من النّظام الذي أنشأه هو تدرّج الرّغبات: 
1.الرّغبات الطبيعيّة و الضّروريّة.
2.الرّغبات الطبيعيّة و غير الضّروريّة.
3.الرّغبات العبثيّة.
العيش في توافق و وئام مع الطبيعة هو نقطة البداية للوصول إلى سعادتنا في ما يتعلّق بطبيعتنا كبشر و الطّبيعة من حولنا. لذلك لم يشجّع إبيقورعلى السّعي وراء الرّغبات غير الطبيعيّة بل على إتّباع الرّغبات الطبيعيّة عوضا عنها. عندما ننظر عن كثب للاختلافات بين أنواع الرّغبات سنجد بأنّه يسهل إشباع الرّغبات الطبيعيّة و الضروريّة، و بالتالي يسهل العثور على السّعادة في الحياة.
1.الرّغبات الطبيعيّة و الضروريّة 
تتمثّل هذه الرّغبات في الأكل و المسكن. عامّة يحصل النّاس بسهولة على هذه الأشياء وهي الاحتياجات الأساسيّة للحصول على المتعة. هناك خاصيّة أخرى لهذه الرّغبات وهي أنّها تمتلك حدّا طبيعيّا، فنحن نشعر بعد تناول كميّة معيّنة من الطعام،بالرّضا و السّرور. قسّم إبيقور هذا النوع من المتعة إلى قسمين: "المتعة المتحرّكة" و "المتعة الثّابتة".
المتعة المتحرّكة هي الممارسة الفعليّة للأكل، أمّا المتعة الثابتة فهي الإحساس الذي نشعر به عندما نكون راضين و مسرورين بعد ممارسة المتعة المتحرّكة كالأكل مثلا. يمكن أن يكون تناول وجبة جيّدة ممتعا جدّا، لكن بالنّسبة لإبيقور فغياب الاحتياجات أو الرّغبات بعد أن تتمّ الاستجابة لها أكثر متعة من ذلك بكثير. لذلك رأى أنّ "المتعة الثّابتة" كإحدى أفضل أنواع المتع.
ركّز إبيقور أيضا على أهميّة الاندماج في المجتمع مُؤمنا بأنّ الصّداقة هي أحد أهمّ مقوّمات السّعادة، على خلاف العلاقات الرومنسيّة التي يرافقها الحزن و الغيرة و حبّ الامتلاك والملل، وهي أشياء يختبرها أغلب الأزواج. كان إبيقور يمارس ما يعظ به الناس، و كان أعزب، و عاش حياته مع تابعيه في مكان يُدعى "حديقة إبيقور" مستمتعا ببساطة الخبز و المشروب مع صحن من الجبن أحيانا. للأسف، تبدو الصداقة الحقيقيّة في مجتمعاتنا الفرديّة الحاليّة صعبة المنال.
2.الرّغبات الطبيعيّة و غير الضروريّة
تصعب الاستجابة إلى الرّغبات الطبيعيّة و غير الضروريّة و التي تتمثّل في الأطعمة الفاخرة و السيارات الباهظة و السفر التّرفيهي. فنحن لا نحتاج الطعام الفاخر لنعيش ولا يستلزم التنقّل من مكان لآخر امتلاك سيارة فيراري، و لا يتطلّب الاستمتاع و الاسترخاء السّفر خارج البلاد. فإن اشتهينا الطعام الفاخر مثلا و استجبنا إلى الشّعور بالجوع بوجبة بسيطة من الماء و الخبز، هل سيكون هناك أيّ اختلاف بعد أن اختفت حاجتنا للأكل؟ غالبا ما تكون القناعة التي نشعر بها بعد أن نستجيب إلى تلك الرّغبة هي ذاتها.
كتب الفيلسوف الرّواقي سينيكا الكثير عن إبيقور و استشهد باقتباساته ليدعم حُججه الخاصّة. اكتشف إبيقور أنّ إحساسنا بالفقر و الغنى يعتمد على طريقة تعريفنا لهما. فيقول سينيكا في هذا السّياق:" هناك أيضا قول إبيقور هذا:" إن شكّلت حياتك وفقا للطبيعة، لن تكون فقيرا أبدا، و إن فعلت ذلك وفقا لفكر ما، لن تكون غنيّا أبدا." لأنّ مقتضيات الطّبيعة بسيطة، و متطلّبات الأفكار لا حدود لها."
3.الرّغبات العبثيّة
السّلطة، و الشّهرة، و الثّراء الماديّ و الماليّ الأقصى هي أشياء صعبة المنال و يصعب الاستجابة لها كليّا. وعلى خلاف الرّغبات الطبيعيّة، لا توجد حدود طبيعيّة للرغبات العبثيّة، وهذا يعني أنّنا حتّى إن امتلكنا سلطة خارقة فلن تكون كافية أبدا و سنرغب دائما في الحصول على المزيد و سنقدّم المزيد من التّضحيات التي يمكن أن تصل إلى ارتكاب جرائم كالقتل لنحصل على ما نريده. رأى إبيقور هذه الرّغبات على أنّها غير طبيعيّة، وبالتالي، فهي قائمة على الفكر و الرأي الخاص للشخص. بعبارة أخرى، هي ما يجعلنا المجتمع نؤمن بأنّنا نحتاجه وخاصّة في مجتمعنا اليوم، حيث نُنعت بالفاشلين عندما لا نجني مقدارا معيّنا من المال، و تلينا الأجيال الأصغر الّتي ترى أنّ أساس معنى الحياة هو السّعي وراء السُّلطة و الشّهرة و الثّراء. وهذا يعني بأنّنا مبرمجون لنقضي وقتنا و طاقتنا نلاحق شيئا ليس غير طبيعي فقط، بل لا يعطينا الإحساس بالرّضا أيضا. يقول إبيقور:" نسمّي "مساعي باطلة" أنواع الحياة الّتي لا تؤدّي إلى السعادة." إضافة إلى ذلك، نحرم أنفسنا تماما من المتعة المتوفّرة و التي يمكننا الحصول عليها بسهولة عن طريق اتّباع ما تغرسه فينا توقّعات المجتمع، و السّعي وراء الأشياء التي لا تسعدنا.
لم يكن إبيقور ليتفاجأ بسبب ارتفاع أسعار الأدوية المضادة للاكتئاب هذه الأيّام لأنّنا ببساطة لا نسمح لأنفسنا بأن نكون سعداء. آمن إبيقور بأنّ الحياة السّعيدة تعني غياب القلق والألم و بأنّ ما يهمّ حقّا هو اللحظة الحاضرة. من الجيّد أيضا أن نُذكّر أنفسنا بأن الحياة قصيرة وألّا نسمح لها بإغفال و تفويت المُتع. يقول إبيقور:" نضيع حياتنا في التّأجيل، و يموت كلّ منّا دون أن يستمتع بالرّفاهيّة."
باختصار، أنشأ إبيقور فلسفة عقلانيّة للمتعة وهي تزهُّديّة بشكل كبير و تعارض الآراء الشائعة. فعوضا عن الاستهلاكية الصّارخة الحاليّة، يشجّعنا على أن نكون سعداء بالقليل. وهذا لا يعني بأنّه علينا ألّا نتنعّم بالمتع غير الضروريّة من وقت لآخر. ورغم أنّ إبيقور عاش على الخبز و الماء و الزّيتون في أغلب الأوقات، إلّا أنّه كان يستمتع حقّا بقطعة من الجبن من وقت لآخر. ففي النهاية، كلّما عشنا ببساطة نستمتع أكثر بالرّخاء عندما يعترضنا.
يقول الرّواقيّ أنّه علينا أن نتذكّر الموت لأنّ وقت العيش بنزاهة محدود و قصير لكنّ الإبيقوري يقول أنّه علينا ألّا نضيع الوقت و الفرص على متع باطلة و عبثيّة و ومخاوف غير عقلانيّة، لكي نستطيع أن نكون سعداء. يجعلنا العيش في المجتمع الإستهلاكي الحالي نرغب في نسأل أنفسنا السؤال الموالي: لماذا نعاني بسبب السّعي المتواصل وراء المال و الشّهرة و السلطة في حين أنّه بإمكاننا أن نعيش بسعادة و رضا دون معاناة و تعب؟ 

إرسال تعليق

Post a Comment (0)