دايوجينس و فلسفة التحرّر و الإستقلاليّة!


"أن نكون متساوين و مستقلّين يعني ألّا يتجرّأ أحد على إيذاء آخر في حياته أو صحّته أو  حرّيته أو ممتلكاته." جون لوك.
كان الفيلسوف دايوجينس إستثنائيّا فقد سخر من الناس في الشوارع، و إحتقر و قلّل من إحترام السلطات، و كسر كل أنواع قواعد السلوك و الإتيكيت و لم يكن يهتمّ بنظافته الشخصيّة. عندما تفكّر في الفلسفة فإنّ آخر شيء يخطر على بالك  هو السلوك الفاضح و الوقح لدايوجينس الفيلسوف الكلبيّ (شخص غيرفاعل و لا يؤمن بتطوّر الإنسان). عارض دايوجينس بقوّة القيم و المؤسسات والمعايير الإجتماعيّة لأنّها تتعارض بالنسبة له مع طبيعة البشر. فقد آمن بأنّ المجتمع قد غرس فينا كلّ أنواع الرغبات غير الطبيعيّة و التي ليست باطلة و مبتذلة فقط، بل تمنعنا أيضا من أن نكون سعداء. إذا يجب علينا أن نخلّص أنفسنا من هذه المبتدعات البشريّة لكي نستطيع أن نعيش الحياة التي من المفترض أن نعيشها في وئام مع الطبيعة. موقف دايوجينس من كل شيء متمدّن و متحضّر واضح جدّا، فقد مارس ما كان يعظ به الناس، و إتّبع سلوكا بذيئا و فاحشا بغضّ النظر عن الأعراف و التقاليد. إذا من غير المفاجئ أن يلقبه الناس ب"الكلبيّ" أو "شبيه الكلب" أو "الكلب". 
يفسّر هذا المقال فلسفة دايوجينس و ما يمكننا أن نتعلّم من أفكاره. نسّق آنتيسثينيس، تلميذ سقراط، الأفكار الأولى لما أصبح فيما بعد المدرسة الفلسفيّة المسمّاة ب"الكلبيّة"."الكلبيّة" هي مذهب يقوم على مجاراة الطبيعة و عدم المبالاة بالعرف. يشير أصل كلمة "الكلبيّة" إلى دايوجينس تابع آنتيسثينيس الذي ولد في مستعمرة إغريقيّة تسمّى سينوبي. لا يوجد شيء يؤكّد بأن آنتيسثينيس و دايوجينس تقابلا لكنّه و الفيلسوف الكلبيّ تقاسما الرغبة و تفضيل عيش حياة الفقر، و آمنا بأنّ الغنى لا يتعلّق بالممتلكات الماديّة. يقول آنتيسثينيس:" لا يكمن الغنى و الفقر في ممتلكات الشخص بل في روحه." هناك فرق بين الكلبيّة في العصر الحديث و الكلبيّة كفلسفة. تشير الكلبيّة اليوم إلى إتّخاذ موقف سلبيّ تجاه طبيعة الإنسان، أو كما يفسّرها معجم كامبريدج :" الإيمان بأنّ الناس مهتمّون فقط بأنفسهم و أنّهم غير صادقين." لم يكن الكلبيّون القدماء سلبيّين تجاه طبيعة الإنسان، لكنّهم عارضوا بقوّة المجتمعات التي يخلقها البشر لأنفسهم، و رأوا أنها تمنعهم من العيش بتوافق و وئام مع طبيعتهم كبشر، و آمنوا أيضا بأنّ السلوك البشري خاطئ لكنّ تغييره و إصلاحه ممكن.
1.دايوجينس: حياته و أفعاله

كان دايوجينس مثالا للفقر، فقد عاش في برميل قرب السّوق في مدينة تدعى كورينث. لم يكن يملك شيئا باستثناء بعض الخرق القديمة و إناء ليأكل و يشرب فيه. و عندما رأى طفلا يشرب بإستعمال يديه تخلّص من الإناء كذلك. رغم أنّه كان فقيرا و معارضا لقواعد السلوك و الأعراف، لم يكن مقطوعا أو منبوذا من المجتمع. في الواقع، كان يتحدّى الناس بمحادثات مدهشة و يجبرهم على مواجهة أخطائهم.
 كان الفيلسوف المشهور أفلاطون معاصرا لدايوجينس و قد كان يؤمن بأن الأفكار هي أساس الحقيقة. لكنّ دايوجينس إنتقده لكونه نظريّا جدّا، و غالبا ما سخر منه عن طريق خرق و تشويش محاضراته. في أحدى المناسبات، كان أفلاطون يتلقّى التقدير لتشبيهه الطبيعة البشريّة ب"الدجاجة بلا ريش"، فقام دايوجينس بنتف دجاجة و إقتحم أكاديميّة أفلاطون و قال:" أنظر! لقد أتيت لك برجل."
بطريقة ما، يمكننا  أن ننظر لدايوجينس على أنه فيلسوف مُضادّ، فقد عارض لزوم نظام أخلاقي شامل و كلّ أنواع المؤسسات و القواعد. تمثّلت فلسفته في أفعاله و قد كان هذا مفتاح نجاحه. كان وصول المجتمع إلى فلسفته المتواضعة أمرا سهلا و قد إزدهرت فيما بعد. 
رغم أنّ أفلاطون إعترف بذكاء دايوجينس و فطنته إلّا أنّه إستنكر سلوكه الوضيع و الفاضح، و سمّاه ب"سقراط المجنون". لم يكن أفلاطون الوحيد الذي سخر منه دايوجينس بالطبع. فقد زار يوما ما السّوق في وضح النهار حاملا مصباحا و إستجوب الناس قائلا:" أبحث عن كائن بشري، و لم أجد أيّا منه." و بالطبع عنى بكلامه أنّ كل من إعترضه في ذلك السوق قد فقد الإتّصال بإنسانيّته. 
حاول أن ينقل نفس الرّسالة أيضا عن طريق السير العكسيّ عبر الرّواق. و عندما ضحك عليه الناس تحدّاهم عن طريق سؤالهم:" ألا تخجلون من سيركم العكسيّ على طول درب الوجوديّة و تلومونني على السير العكسيّ على طول طريق النزهة؟" ربما كان من الممتع و المرعب في نفس الوقت، بالنسبة لدايوجينس، أن يرى عمى الناس أمام الورطة التي بنوها لأنفسهم و المعايير السخيفة  التي توقّعوا من بعضهم البعض أن يتّبعوها. فهو لم يكن يعيش لنفسه فقط، بل أراد أن ينير الناس من حوله. تصف الكثير من القصص دايوجينس على أنّه شبيه الكلب أو "كلبيّ". عندما سُئل عن سبب تلقيب الناس له بتلك الطريقة أجاب:"أتودّد لمن يقدّم لي أيّ شيء، و أصرخ على من يرفض و أعضّ الأوغاد." لكن في يوم ما إرتقى بتسميته بـ"شبيه الكلب" إلى مستوى أعلى عندما قامت مجموعة من الأثينيّين الأغنياء في مأدبة برمي عظام عليه بإزدراء و عدم إحترام، فقد كان ردّه على ذلك هو تبوّله عليهم.
القصّة الأكثر شهرة عن دايوجينس هي التي تحتوي على سخريته من الإسكندر الأكبر. كان الإسكندر الأكبر ملكا لمملكة إغريقيّة قديمة تدعى مقدونيا، و قد كان أحد أكثر القادة العسكريّين نجاحا في التّاريخ. خلال حكمه، تمكّن من تأسيس إمبراطوريّة تمتدّ من أثينا إلى الهند. عندما زار الإسكندر مدينة كورينث، بالكاد لاحظه دايوجينس خلافا عن الكثير من الفلاسفة و القادة الذين سارعوا لتهنئة حاكمهم بإنجازاته. أراد الإسكندر أن يقابل هذا الرجل الكلبيّ الذي سمع عنه، لذا قرّر أن يبحث عنه، فوجده مستلقيا في الشمس. نقل هذه القصّة الفيلسوف اليوناني القديم بلترش فقال:" عندما رأى دايوجينس الكثير من الناس قادمين نحوه، رفع نفسه قليلا و ركّز نظره على الإسكندر، و عندما سلّم عليه الملك و سأله إن كان يحتاج شيئا أجابه :" نعم، إبتعد قليلا عن شمسي." حسب بلترش، صُدم الإسكندر من تلك المعاملة، و ليُبرز إعجابه الكبير بدايوجينس أخبر تابعيه:" إن لم أكن الإسكندر لتمنّيت أن أكون دايوجينس."
لا يوجد إجماع عن طريقة موت دايوجينس فالبعض قال بأنه مات بسبب داء الكلب، لأنه كان محاطا بأصدقائه الكلاب دائما، و قال آخرون بأنه مات بسبب التسمّم الغذائي، أمّا البعض الآخر فقد أجزم بأنّه أنهى حياته بنفسه عن طريق حبس أنفاسه.
2.فلسفة التحرّر و الإستقلاليّة

بعد أن تطلّعنا على البعض من قصصه، لنكتشف سبب قيامه بذلك و ما تشير إليه فلسفته. أشار الكلبيّون إلى خلوّ المعنى من الحياة الحضاريّة، و أفادوا بأنّ البشر ليسوا مخلوقات سيّئة، لكنّهم أنشأوا مجتمعا يبعدهم عن طبيعتهم الحقيقيّة. آمن الكلبيّون بأنّ النزاهة و السعادة بأيدينا نحن، و بالتالي فإنّ العوامل الخارجيّة لا صلة لها بتحقيقنا لهما.
آمن دايوجينس، كسقراط، بأنّ الحياة الجيّدة هي حياة أساسها الإكتفاء الذّاتي. كان من السهل جدّا بالنسبة له أن يكون سعيدا، لأنّه لم يمتلك شيئا، و لم يتمنّى الحصول على شيء أكثر من إحتياجاته الأساسيّة. لم يكن يحتاج أشياء تتعلّق بالغنى الماديّ و المكانة ليكون سعيدا و لم يهتمّ أبدا بآراء الناس تجاهه. إستمتع دايوجينس بالمتع و الملذّات البسيطة للحياة و التي يسهل الحصول عليها، على خلاف الممتلكات الماديّة التي يريدنا المجتمع أن نجاهد من أجل الحصول عليها و التي تتطلّب مجهودا أكبر بكثير. شاركه هذا الرّأي الفيلسوف اليوناني إبيكرس و عارض أيضا السعي وراء الملذّات التي تكلّفنا أكثر ممّا نتلقّاه فعلا، كملاحقة الثراء الماليّ مثلا.
إعتقد دايوجينس بأنّ المال هو أساس كلّ الشرور. و لنكن صادقين، يتوقّع منّا المجتمع أن نحمّل أنفسنا فوق طاقتنا لنحقّق الأهداف السّطحيّة التي يفرضها علينا. في الواقع، بعض الأشخاص مستعدّون للقيام بأعمال غير أخلاقيّة كالعنف و القتل فقط للحصول على المال، و في أغلب الأحيان، يقومون بذلك من أجل شراء أشياء لا يحتاجونها لإثارة إعجاب أشخاص لا يستلطفونهم حتّى. إذا ما الهدف من  الثراء الماديّ عندما نزيح الضغط الإجتماعيّ جانبا؟
أشفق دايوجينس على هؤلاء الأشخاص العالقين في حلقة مفرغة هاربين من أمل الحصول على الأشياء التي لن يحصلوا عليها أبدا ما لم يحرّروا أنفسهم من الفخّ الإجتماعي و يعيشوا حياة بسيطة طبيعيّة لجنسنا كبشر، و يستمتعوا باللحظة الحاضرة. إعتبر دايوجينس هذا طريقا سريعا و سهلا و مناسبا  للوصول إلى النزاهة و السعادة.
من وجهة نظر دايوجينس، الكلاب أساتذة عظماء فيما يتعلّق بالعيش في وئام مع الطبيعة. فهم يرفّهون عن أنفسهم متى أرادوا و يأكلون أيّ شيء يجدونه متى أحسّوا بالجوع، و يعيشون في اللحظة الحاضرة دون قلق. فيما يتعلّق بهذه الأخيرة، يمكننا أن نقول بأنّ ما يبحث عنه العديد من الباحثين عن الروحانيّة موجود في الكلاب مسبقا. حتّى إن كانت حياة الفقر تبدو موقفا ضعيفا ليتّخذه الفرد، إلّا أنّ طريقة دايوجينس في العيش جعلته قويّا جدّا. فقد كان مستقلّا عن كلّ العوامل الخارجيّة و بالتّالي لم يكن بإمكان أيّ شخص أن يضرّه. كان متحكّما بسعادته الشخصيّة، و لم يترك مجالا للعالم الخارجي أن يقوم عنه بذلك، و قرّر أن يعيش حياة الإجهاد.
عن طريق تعمّد عيش الحياة الصعبة، لم يصبح قويّا فحسب بل أكثر قدرة على الإستمتاع بالأشياء البسيطة أيضا. كان دايوجينس يشحذ من التماثيل أيضا و إعتبر ذلك على أنّه تمرين من أجل الإحساس بالرّفض. 
باختصار، كان دايوجينس إنسانا بسيطا. لم تقم فلسفته الكلبيّة على أنظمة معقّدة من الأخلاقيّات و أعمال أكاديميّة موسّعة، بل كانت قائمة على الأفعال. نقد دايوجينس المجتمع الحديث و طريقة تفرقته للناس عن طبيعتهم الحقيقّة. إضافة إلى ذلك، هدفت فلسفته إلى معالجة وضعيّة الإنسان المشفقة، و شجّعتنا على أن نعيش حياة الإجهاد و المثابرة مقاطعين الأعراف، و ذكّرتنا بأن نستمتع باللحظة الحاضرة. مارس دايوجينس ما دعى الناس إليه، و قد جسّدت كلّ قصصه سلوكه الغير تقليدي، فهو لم يهتمّ حقّا بالأشياء التي يجبرنا المجتمع على أن نهتمّ لأمرها كالمكانة و المال و القواعد و المعايير  الإجتماعية.

إرسال تعليق

Post a Comment (0)